سياسة
حيدر علييف في ذاكرة تاريخ أذربيجان الحديث
باكو، 6 مايو/أيار (أذرتاج).
نقدم لكم مقال كتبه الباحث والكاتب المصري احمد عبده طرابيك بعنوان " حيدر علييف في ذاكرة تاريخ أذربيجان الحديث".
القيادة ظاهرة تاريخية تسجلها صفحات التاريخ في ذاكرة الأمة ، يتدارسها الأجيال ليستهلموا منها روح القيادة والبطولة في الأوقات التي تحتاج فيها الأوطان لإعادة صناعة قائد جديد ، لإنقاذ الوطن من محنة ألمت به ، أو النهوض من كبوة طال أمدها ، ويعيد للوطن مجده ، وللأمة ازدهارها ، ويعاد كتابة صفحة جديدة في تاريخ الوطن .
مصر لا ينسي شعبها علي مر السنين وتعاقب الأجيال ، خلال تاريخ النضال والكفاح قادة خلدتهم الذاكرة ، وسجل التاريخ أسماءهم في صفحاته الخالدة ، فلا تضل الذاكرة التاريخية ولا الشعبية أسماء الزعماء ، أحمد عرابي ، سعد زغلول ، وجمال عبد الناصر ، وغيرهم ، فقد كان لكل منهم بصماته التي لا تمحوها الأيام والسنين من تاريخ مصر الحديث ، وكذلك في الكثير من دول العالم يفخرون بما يسجله تاريخ نضال شعوبهم من أسماء قادت الأمة إلي مراحل من العزة والازدهار والتقدم .
جمهورية أذربيجان ، الجزء العزيز من عالمنا الإسلامي ، لا يُستثني من الظاهرة التاريخية في تخليد القادة ، فتلك الدولة شأنها كشأن الدول ذات الحضارة العريقة ، مرت بفترات وعهود من الازدهار والانكسار ، فمنذ فجر التاريخ وهذا الجزء من أرض القوقاز ، استطاع أن يسجل في صفحات التاريخ أسماء قيادات حملت علي عاتقها قيادة شعبها إلي التقدم والرقي والازدهار .
وفي العصر الحديث ومنذ تأسيس جمهورية أذربيجان الشعبية كأول جمهورية ديمقراطية في الشرق في 28 مايو 1918 ، مرت أذربيجان بالكثير من المحن والشدائد ، نظراً لأطماع القوي الدولية المحيطة بها ، وتأمرها علي تلك الدولة الوليدة ، التي لم يدم استقلالها أكثر من ثلاث وعشرين شهراً ، حتي كانت جحافل القوات السوفيتية الشيوعية قد قضت علي أحلام الجمهورية الناشئة علي ركام الحضارة والتاريخ لدولة " ألبان القوقاز " ، وتحت وطأة وقسوة الحكم السوفيتي الشيوعي الذي استمر لأكثر من سبعين عاما ، خرج زعيم أذربيجان القومي " حيدر علييف " ليقود أبناء وطنه نحو الحرية والاستقلال واستعادة عملية البناء والنهضة نحو التقدم والازدهار .
ولد حيدر علي رضا أوغلو علييف في مدينة ناختشيوان ذات الحكم الذاتي بجمهورية أذربيجان في 10 مايو عام 1923 ، تخرج من كلية المعلمين في ناخنشيوان عام 1939 ، ثم درس في كلية العمارة لمعهد أذربيجان الصناعي ، الذي تحول إلي " أكاديمية النفط الحكومية الأذربيجانية " حالياً ، ولكنه لم يتمكن من استكمال دراسته نظراً لإندلاع الحرب العالمية الثانية .
بدأ حيدر علييف حياته السياسية في عام 1941 ، حيث شغل منصب مدير القسم في مفوضية الشعب بجمهورية ناختشيوان الاشتراكية السوفييتية ذات الحكم الذاتي ، ثم أُرسل للعمل في هيئات أمن الدولة عام 1944 ، وأصبح حيدر علييف الذي كان يعمل في نظام هيئات الأمن منذ ذلك الوقت نائبا لرئيس اللجنة الدولة للأمن لدى مجلس الوزراء بجمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفييتية عام 1964 ، ورئيسا لهذه اللجنة عام 1967 ، وفي سنة 1957 تخرج في كلية التاريخ بجامعة أذربيجان الحكومية .
أصبح حيدر علييف قائدا لجمهورية أذربيجان بعد انتخابه الأمين الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي يوليو عام 1969 ، وبعد انتخابه عضوا للمكتب السياسي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي في ديسمبر عام 1982 ، عُين نائبا أول لرئيس مجلس الوزراء للاتحاد السوفييتي في موسكو ، وظل به خمس سنوات ، إلا أنه استقال في أكتوبر عام 1987 من مناصبه بعد أن أصبح معارضا للسياسة التي يقودها المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي برئاسة ميخائيل جورباشوف .
وبعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي عاد علييف في يوليو 1990 عاد من موسكو للعيش في باكو ، ثم في ناختشيوان ، وانتخب في السنة نفسها نائبا للسوفييت الأعلى لأذربيجان ، وأصبح رئيسا للمجلس الأعلى لجمهورية ناختشيوان ذات الحكم الذاتي ونائبا لرئيس السوفييت الأعلى لجمهورية أذربيجان خلال أعوام 1991 - 1993 ، وانتخب زعيما لحزب " أذربيجان الجديدة " في مؤتمر تأسيسه الذي عقد في مدينة ناختشيوان عام 1992 ، وفي 15 يونيو 1993 انتخب رئيسا للسوفييت الأعلى لأذربيجان ، فبدأ في ممارسة صلاحيات رئيس جمهورية أذربيجان وفقا لقرار المجلس الوطني في 24 يوليو ، وفي 3 أكتوبر 1993 انتخب علييف رئيسا لجمهورية أذربيجان بنسبة 76.1 بالمائة من الأصوات ، وفي انتخابات 11 أكتوبر 1998 حصل علي أغلبية ساحقة .
جاء حيدر علييف إلى ناختشيوان وقام بفتح الحدود مع الدول المجاورة ، فانتعشت الحالة الاقتصادية ومن ثم فقد بدأ الشعب يشعر بالحرية والعزة والكرامة بعد أن كان يعاني الأزمات الإقتصادية والبطالة ، وفي باكو كانت الأحداث تتداعى بسرعة إلى الأسواء ، بسبب الخلاف السياسي المحتدم ، مما دفع الشعب في باكو إلى الاستغاثة به لكي يخلصهم من كل ما يحيط بهم من أخطار تنذر بالتفكك والانهيار ، فاستطاع توحيد البلاد واسترداد بعض الأراضي التي احتلتها أرمنيا ، ولكنه نظرا للظروف الإقتصادية الصعبة ، والظروف الدولية المحيطة لم يستطع أن يكمل تحرير بقية الأراضي المغتصبة ، واضطر إلى توقيع اتفاقية لوقف إطلاق النار مع أرمنيا ، ومن ثم بدأ في إعادة تنظيم الجيش وبناء الدولة في كل قطاعاتها حتى يتمكن من استرداد الأراضي المحتلة وانضمت أذربيجان في عام 1992 إلى الأمم المتحدة ، التي أصدرت أربعة قرارات تقضي بضرورة انسحاب أرمنيا من أراضي أذربيجان المحتلة ، ولكنها لم تجد استجابة من قبل المحتل الأرمني حتي الآن .
أعلن حيدر علييف أنه إذا لم تنسحب أرمنيا من أراضي أذربيجان التي اغتصبتها فإننا لن نجد أمامنا خيارا إلا القوة ، مسترشدا بمقولة عبد الناصر " ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة " ، وخاصة أن اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعتها أذربيجان مع أزمنيا اقتضتها ضرورة اقتصادية مهمة وهي جذب للاستثمارات الأجنبية وخاصة في مجال النتقيب عن النفط لإنعاش الحالة الاقتصادية في البلاد وكان هذا سبيلا إلى حل كثير من مشكلات البطالة والخدمات الصحية التعليمية وغيرها ومن ثم بدأت أذربيجان تدخل في عصر النهضة الحديثة لكي تلحق بركب الحضارة والتقدم .
أقام حيدر علييف علاقات قوية مع دول العالم المختلفة بعد أن أصبحت أذربيجان دولة حرة مستقلة وقد كان حريصا على أن يعرض مشكلات بلاده في المحافل الدولية وأن يكسب تأييد دول العالم الحرة له خصوصا بالنسبة لقضية " قره باغ الجبلية " ، وأعاد بلاده إلي انتماءها الإسلامي بعدما ظلت طوال الحقبة السوفيتية بعيدة عن تلك الدائرة التي ينتمي شعبه إليها ، وبدأ التعاون المتبادل وبناء العلاقات الثقافية والسياسية والاقتصادية مع الدول الإسلامية.
اهتم علييف بإعداد جيش قوي يحفظ لأذربيجان قوتها ويصون أراضيها ويدافع عن حقوقها ويسترد أراضيها المحتلة ، انطلاقا من وعيه العميق بقول الله تعالي : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم " ، ولذلك فقد كان حريصا على أن يعلن إلى شعبه أن أذربيجان تحتاج إلى جيش قوي يدافع عن قضيتها العادلة في استرداد أراضيها ، حتي يعرف كل مواطن حقوقه وواجباته الوطنية والإحساس بالانتماء إلى هذه الأرض ، حتي أصبح جيش أذربيجان في مقدمة جيوش القوقاز قوة وتطورا .
كان حيدر علييف يؤمن بأن العلم هو السبيل الوحيد للنهضة والتقدم ، ولذلك كان يقول " شعب غير مثقف لن يستطع أن ينجح في الحياة " فعمل علي تطوير بلاده من خلال المؤسسات التعليمية المختلفة في كافة المجالات ، وحرص علي إعداد الكوادر الوطنية ذات الكفاءة العالية في مجالات التعليم والصحة والثقافة والاجتماع والعلوم واهتم بصفة خاصة بميدان البحث العلمي الذي يعد أساسا لنهضة المجتمع وتطور البلاد .
رحل الزعيم حيدر علييف في 12 ديسمبر 2003 ، بعد أن وضع أذربيجان على الطريق نحو تحقيق آمال الشعب في الحرية والرفاهية والازدهار ، فالإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية الثابتة ، والإدارة الفعالة والسياسة الخارجية النشطة ، قد جعلت من أذربيجان قائداً إقليميا وشريكا قويا موثوقا به في العلاقات الدولية ، هكذا ينهض القادة بأوطانهم ، وتسجل أسماءهم في سجلات تاريخها المجيد ، ويتذكر الأجيال سيرة أبطالها وقادتها ليستلهموا الهمة والعزيمة علي مواصلة المسير نحو التقدم والرقي والازدهار .