سياسة
أزمة القانون الدولي والحكم والإدارة : أسبابها ونتائجها

صدر عدد مجلة "القوقاز الدولية" المطبوعة في إسطنبول باللغة الإنكليزية، مكرس للأزمة التي تعم العلاقات الدولية والنظام القانوني الدولي. كما يحتوي هذا العدد على أجوبة نائب رئيس ديوان رئيس الجمهورية مدير قسم العلاقات الخارجية نوروز محمدوف على أسئلة المجلة في موضوع " ازمة القانون الدولي والإدارة : أسبابها ونتائجها". واعتادت المجلة إدراج نصوص مقابلات على صفحاتها أجرتها مع العلماء المشهورين او رجالات السياسة البارزين بالعالم.
إن العدد الحالي الذي يجمع مقالات باحثين مختلفي الجنسيات ممثلين عن العديد من الجامعات ومؤسسات الفكر العالمية يتناول قضايا عدم الاحترام بمعايير القانون الدولي والجور في نظام العلاقات الدولية وعدم فاعلية المنظمات الدولية وخضوعها لمصالح الدول الكبرى وغيرها. وتقدم وكالت أذرتاج نص المقابلة.
- وما هي العواقب التي تنتج في العلاقات الدولية العصرية عن ازدواجية المعايير في السياسة الدولية وخدمة الدول الكبرى مصالحها القومية تحت ستار الديمقراطية وحماية حقوق الانسان ؟
ان الواقع هو انه قد تكوّن وضع معقد ومتوتر للغاية في نظام العلاقات الدولية في الألفية الجديدة. وقد أدى العديد من العمليات الجارية بشكل متتال ومستمر خلال الفترة المحددة الى وصول العلاقات الدولية الى مرحلة متوترة اليوم.
إن بقاء قطب واحد في نموذج الغرب في نظام العلاقات الدولية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي كان قد بعث آمالا كبيرة في كثير من الناس في المستقبل. وكان من المتوقع سير العمليات في العالم اكثر سيولة، وانخفاض المشاكل وحل النزاعات المحتملة عن طريق المفاوضات والحلول الوسطية طبقا لمعايير ومبادئ القانون الدولي، وليس عن طريق حرب. لكن المؤسف هو ان جميع هذه التوقعات لم تتحقق. أما الغرب الذي أصبح قطبا وحيدا وقوة مسيطرة بالفعل فلم يبذل أي جهد لجعل نظام العلاقات الدولية اكثر انسجاما وخاليا من النزاعات. وبالعكس، طفق الغرب الذي لم يواجه اي منافس جاد امامه يطمع تحقيق مصالحه الاستراتيجية بالكامل وهي الحصول على الهيمنة التامة على الموارد البشرية والطبيعية للعالم كافة.
وان القوة العسكرية انتقلت الى المكان الثاني كأداة تأثير رئيسي لأن قتل الناس بالرصاص يعدّ جريمة دولية. وهذا أدى الى تكييف أدوات التأثير مع وقائع جديدة حيث أصبحت اكثر تعقيدا و"حضاريا" أي تحولت الى "قوة لينة" . وبدأ العامل البشري يجد ابرازا اكثر إضافة الى تبرير تدخلات مختلفة الجوانب الإنسانية. ويستفاد من الديمقراطية وحقوق الانسان من اجل ممارسة الضغط على بلدان متفرقة. حتى قرر تحقيق مسألة زواج ذوي الميول الجنسية غير التقليدية على مستوى حقوق الانسان أيضا.
واما العواقب فهي قائمة نصب اعيننا. ان الغرب الذي أصبح قوة فائقة هو الذي يتحمل المسؤولية عن اكتساب المشاكل الناشبة في عدد عديد من مناطق العالم رواجا كبيرا وحتى طابعا عالميا. ان عجز الغرب عن توفير معالجتها وعدوله في كثير من الحالات عن التدخل في هذه العمليات تارة وكونه مسببا رئيسيا لهذه العمليات تارة أخرى، وكذلك توسع نطاق الصراعات الجيوسياسية والجيواقتصادية بين الدول والصراعات الترابية فتشير كل هذه إلى دخول العالم مرحلة اكثر توترا وتأزما وذلك خلافا على وصول العالم الى "نهاية التاريخ" كما يدعيه فرنسيس فوكوياما. ويكفي هنا مجرد القول بان عدد النقاط الساخنة على وجه الأرض يبلغ حاليا حوالي 50 نقطة في حين كانت الأوضاع المتوترة إبان الحرب الباردة تعم نحو 10 بلدان عبر العالم.
وعلى خلفية كل ذلك، ان الذي يجعلنا نفكر فيه هو ان حدوث مثل هذه الأحداث مطلع القرن الـ21 الذي يشهد المجتمع العالمي تطورا فيه تحولت الى قضية تنتظر في الحقيقة حلها ومعالجتها. وفي الحقيقة، من المرتقب أن يتدنى عدد النزاعات والتناقضات والمشاكل على ازدياد تطور الانسان والمجتمع، ولكن تلاحظ اليوم في العالم الأحداث المغايرة، الامر الذي لا يعد شيئا حسنا على الاطلاق للمجتمع الدولي.
ونلاحظ في الوقت الحاضر أن القانون الدولي والمنظمات الدولية التي من شأنها ان تتولى مهمة ضمان تطبيق هذا القانون يواجهان الأزمة. كما ان اتخاذ الدول الكبرى مواقف مغايرة من المشاكل المتشابهة وقيامها باستغلال القانون الدولي والمنظمات الدولية كأداة لتحقيق سياساتها الخارجية قد اكتسبا رواجا كبيرا.
- وما هي أسباب هذه الازمة، في رأيك، وأية خطوات يجب اتخاذها من اجل تحويل معايير القانون الدولي الى آلية تسوّي العلاقات الدولية ؟
ويجدر بالذكر في البداية، ان مفهوم العدالة هو المفهوم الأهم والأكثر ضرورة الذي قد يستفاد منه في تقييم التعاملات بين الناس حيث يمكن النظر في هذا المبدأ بوجهه قيمة رئيسية تحدد سلوك جميع الناس من مواطن بسيط الى رجل سياسة رفيع المستوى. وفي غياب العدالة لا جدوى في انتظار نتيجة إيجابية في أي مجال من النشاط البشري أبدا. أما رواج حالات الإبادة الجماعية المرتكبة ضد البشر او مغادرة الناس منازلهم جراء النزاعات الجارية في اي صقع من أصقاع العالم بسبب غض الأنظار عنها على خلفية المصالح المحددة فانه مثال بارز على أية عواقب يثيرها الجور وعدم وجود العدالة في نظام العلاقات الدولية.
وان اكبر مشكلة لنظام العلاقات الدولية اليوم هي غياب العدالة. وهذا هو الذي يسبب بفشل واضح للقانون الدولي الذي يحدد اطار نشاط جميع الدول بغض النظر عن كبرها وصغرها الدول التي تشكلت طوال السنوات العديدة ضمن هذا النظام. ولا تلتزم اليوم لمبادئ ومعايير القانون الدولي. وقد اصبح من الصعب للغاية تحديد مدى قانونية أو غير قانونية لمعاملات الدول في هذه الآلية المتشكلة على أساس إرادة الغرب. وبالأحرى، فيمكن تقييم هذه المعاملات على أساس المبادئ الموجودة للقانون الدولي ولكن وقوع هذا التقييم تحت رهان مصالح الدول المحددة يعقّد الأمر. وبالتالي، لا يتم تطبيق القانون الدولي على العمليات، حيث ان القانون الدولي يصبح أداة تخدم لمصالح الدول الكبرى.
وكما ذكرتم، فان المنظمات الدولية التي من شأنها ان تلعب دور ضامن لتطبيق القانون الدولي في مثل هذه الاوضاع تقع في الازمة. وان السبب الرئيسي لهذه الازمة وقوع تلك المنظمات تحت تأثير مصالح الدول الكبرى. وان هذه المصالح تشترط تطبيق القانون الدولي على العمليات المتشابهة بشكل مختلف ومغاير. وكما أشار رئيس أذربيجان إلهام علييف في كلماته اليه "اننا نشاهد تارة القيام بتدخل في بلد ما قبل تبني قرار بصدده لدى مجلس الامن لمنظمة الأمم المتحدة. واما القرارات المتخذة بصدد بلاد أخرى فتظل في الارشيفات طوال العقود من السنين ولا يتخذ تدبير عملي بهذا الشأن على الاطلاق.
وان مثل هذه المواقف تبرز نفسَها اكثر ابرازا من نزاع قراباغ الجبلي. وهناك القرارات الأربعة الصادرة عن مجلس الامن الدولي بصدد نزاع قراباغ الجبلي الى جانب قرارات وبيانات صدرت عن منظمة الامن والتعاون الأوروبي والبرلمان الأوروبي والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا والناتو وسائر المنظمات الدولية ولاسيما تطالب قرارات الأمم المتحدة بانسحاب قوات الاحتلال الارمينية من أراضي أذربيجان فورا وبدون أي شرط وقيد. وان المجتمع الدولي والمنظمات الدولية يعترف في جميع هذه الوثائق بوحدة أراضي أذربيجان، بيد ان أية مطالب لتلك القرارات لا تنفذ بسبب عدم صدور موقف قاطع.
وأية نتيجة يمكن استنتاجها من هذا؟ هل بلدان الغرب تهتم بالحفاظ على الوضع الحالي بصدد نزاع قراباغ الجبلي في حين تدخلت على الفور في الأقطار مثل أفغانستان والعراق وليبيا ؟ ربما هذا هو سبب اختلاف المواقف من الكيانات الانفصالية في جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا من جهة ومن الكيان الانفصالي في قراباغ الجبلي من جهة أخرى؟
ولا ريب في ان تطبيق المعايير المزدوجة على هذا النحو يلقي ظلا على مبدأ العدالة والقانون الدولي. إن العمليات التي سبب بها الغرب بنفسه تتحول ضده فيما بعدُ وتشكل خطرا كبيرا على وجه العموم لنظام العلاقات الدولية. وهذا أمر يعترف به اليوم عدد كبير من الدول.
ولا يمكن دحض وجوب تغيير الأوضاع الجذري. واما المخرج الوحيد فهو إحلال مبدأ العدالة وسيادة القانون الدولي. وعلى الدول الكبرى ان تسعى سواء في العلاقات الثنائية ام في فعالياتها في إطار المنظمات الدولية الى تطبيق معايير ومبادئ القانون الدولي، ليس الى تحقيق مصالحها. ان ضرورة هذا يظهر نفسَه جليا خاصة في اطار منظمة الأمم المتحدة بكونها منظمة عالمية. ويسعني القول على سبيل المثال ان أذربيجان قامت خلال مدة عضويتها لدى مجلس الامن الدولي بمجرد الدفاع عن القانون الدولي والعدالة وبإبداء موقف مبدئي من المسائل الملموسة الى جانب تقدمها بمبادرات نحو ضمان السلام والامن الدوليين وتعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب. واحسب ان مثل هذا الموقف وحده يقدر على إزالة نزعات مضرّة قائمة في نظام العلاقات الدولية.
- وكيف تقيّم فاعلية (والأصح عدم فاعلية) مجموعة منسك التابعة لمنظمة الامن والتعاون الأوروبي نحو تسوية نزاع قراباغ الجبلي القائم بين أرمينيا وأذربيجان؟ وما هي الأسباب الرئيسية التي يرجع اليها فشل جهود مجموعة منسك في بناء السلام؟
ويستمر نزاع قراباغ الجبلي القائم بين أرمينيا وأذربيجان منذ اكثر من 25 عاما. ان 20 في المائة من أراضي أذربيجان المتعارف بها دوليا محتلةٌ من قبل أرمينيا واصبح اكثر من مليون شخص لاجئين ومشرّدين ونازحين قسرا. ولكن محاولات تسمية النزاع "نزاعا مجمدا" لا تزال موجودة لسبب نجهله. يقلق المجتمع الدولي بالتوتر المستمر عند خط الجبهة ولكنه يسعى كل مرة الى اعادة " تجميد" الأوضاع بدلا من تخصيص اهتمام بالأسباب الحقيقية للعمليات.
ويمكن القول بكل تأكيد ان نزاع قراباغ الجبلي نشب نتيجة الألعاب الجيوسياسية. وما دامت تستمر هذه الألعاب لن تتغير هذه النتيجة. ان ما يجري في البلدان مثل جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا هو من مظاهر هذا أيضا.
ويطرح سؤال نفسَه في مثل هذه الأوضاع : وبما تشتغل مجموعة منسك المنبثقة عن منظمة الامن والتعاون في أوروبا؟ أكيد، يمارس الرؤساء المشاركون بعض المساعي لتسوية النزاع ويدلون بتصريحات ويتقدمون باقتراحات. لكن كل هذه المبادرات ترفضها أرمينيا. فما الذي يتخذه الرؤساء المشاركون مقابل هذا؟ تستمر "دبلوماسية القدوم والمغادرة" و " رحلات سياحية" الى المنطقة وينشأ مظهر للنشاط واما الماهية فلا تتغير. الى متى يمكن استمرار مثل هذا النشاط ؟
هناك عدد من المواقف الشيقة من حل النزاع. إن حل النزاع دخل في احتكار مجموعة منسك التابعة لمنظمة الامن والتعاون في أوروبا من جهة. وثمة دوائر محددة تهتم بالاحتفاظ بالوضع الراهن كما هو. كلما طرحت مساع الى خطوات عملية على أي مستوى بشأن تسوية النزاع يبرز موقف مفاده " هذا العمل تشتغل به مجموعة منسك ". عندما يطالب من الرؤساء المشاركين بإبداء موقف صارم قاطع من جهة أخرى فيسعون الى التواري خلف بواعث مثل ان " المشكلة ينبغي لطرفي النزاع ان يحلاها نفساهما واننا سندعم أي سبيل من سبل الحل".
وثمة حاجة ماسة الى اجراء تعديلات جادة في ماهية مثل هذه الوساطة. وبالدرجة الأولى، يجب ان يتغير موقف من طرفي النزاع مع ابداء موقف ملموس وقاطع. كما ينبغي الاعتراف الفعلي بأرمينيا كبلد معتد إضافة الى ضرورة وجود واقع الاحتلال في أساس عملية المفاوضات. ولكننا للأسف الشديد لا نشاهد شيئا من كل هذا.
واما مواصلة المفاوضات على هذا النحو فليس من شأنه ان يرضينا. فقد أبان رئيس أذربيجان إلهام علييف مرارا ان أذربيجان لن تجري مباحثات لقاء مباحثات ولن ترضى ببقاء أراضيها ولو شبر واحد تحت الاحتلال الأرميني وستحرّر أراضيها عاجلا ام اجلا. ان جميع طرق تحرير الأراضي ما زالت قائمة سواء أهي سلمية وتفاوضية ام سائر الطرق المتاحة. وارى ان ادراك أرمينيا وكذلك الرؤساء المشاركين في مجموعة منسك هذا الواقع سيعود بالنفع الى جميع الأطراف.